كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالوا: وقد أخبر سبحانه أن الظن لا يغني من الحق شيئًا، وأخبر رسوله أن الظَّنَّ أكْذَب الحديث ونهى عنه، ومن أعظم الظن ظن القياسين. فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه وتعالى حرم بيع السمسم بالشيرج، والحلوى بالعنب، والنشا بالبر، وإنما هي ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئًا.
قالوا: وإن لم يكن قياس الضراط على السلام عليكم من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه، وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئًا فليس في الدنيا ظن باطل. فأين الضراط من السلام عليكم. وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى أخبث العذرات والميتات والنجاسات ظنًا. فلا ندري ما الظن الذي حرم الله سبحانه القول به، وذمه في كتابه، وسلخه من الحلق، وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان واليهود الذين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين على أوليائه وخيار خلقه، وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكاثر دمائهم وجريان القصاص بينهم ظنًا. فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه.
قالوا من العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص بينهم، فقتلتم ألف ولي لله تعالى قتلوا نصرانيًا واحدًا، ولم تقيسوا من ضرب رجلًا بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله.
قالوا: وسنبين لَكِن من تناقض أقيستكم واختلافها وشدّة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله.
قالوا: والله تعالى لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا، وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه، فما بينه عنه وجب اتباعه، وما لم يبينه فليس من الدين، ونحن نناشدكم الله هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبيهة والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول، أو على آراء الرجال، وظنونهم وحدسهم. قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فأين بين النَّبي صلى الله عليه وسلم؟ إني إذا حرمت شيئًا أو أوجبته أو أبحته، فاستخرجوا وصفًا ما شبيهًا جامعًا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوه عليه.
قالوا: والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له، فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه، وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه. قالوا: وما ضربه الله ورسوله من الأمثال فهو حق، خارج عما نحن بصدده من إثباتكم الأحكام بالرأي والقياس من غير دليل من كتاب ولا سنة. وذكروا شيئًا كثيرًا من الأمثال التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم معترفين بأنها حق. قالوا: ولا تفيدكم في محل النزاع، قالوا: فالأمثال التي ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي لتقريب المراد، وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع. وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به. فإنه قد يكون أقرب إلى تعقله وفهمه، وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره. فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير. ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره. وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهورًا ووضوحًا. فالأمثال شواهد المعنى المراد، وتزكية له. وهي كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته، ولَكِن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه؟ فهمنا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة، قياشًا وتمثيلًا على أقل ما يقطع فيه السارق. هذا بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالأمثال المضروبة للفهم. كما قال إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه الصحيح: باب من شبه أصلًا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السامع.
قالوا: فنحن لا ننكر هذه الأمثال التي ضربها الله ورسوله، ولا نجهل ما أريد بها، وإنماننكر أن يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعًا من قوله تعالى: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وأن الآية تدل على ذلك. وأن قوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: «صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من أقط أو صاع من بر، أو صاع من زبيب» يفهم منه أنه لو أعطى صاعا من إهليج جاز، وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار. وأن قوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش» يستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال الولي بحضرة الحاكم: زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب، فقال: قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثًا، ثم جاءت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه، وقد صارت فراشًا بمجرد قبوله قبلت هذا التزويج، ومع هذا لو كانت له سرية يطؤها ليلًا ونهارًا لم تكن فراشًا له ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدعيه ويستلحقه، فإن لم يستلحقه فليس بولده؟
وأين يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل» أنه لو ضربه بحجر المنجنيق أو بكور الحداد أو بمرزاب الحديد العظام، حتى خلط دماغه بلحمه وعظمه أن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودًا.
وأين يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: «ادْرَءُوا الحُدُود عن المُسْلمِين ما اسْتَطَعْتُم فإن لم يكن له مَخْرَج فَخَلُّوا سَبِيله، فإن الإمام إن يُخْطِئ في العَفْو خَيْر له من أن يخْطِئ في العُقُوبة» أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حد عليه. وأن هذا المفهوم من قوله «ادْرَءُوا الحُدُود بالشُّبُهات» فهذا في معنى الشبهة التي تدرأ بها الحدود، وهي الشبهة في المحل أو في الفاعل أو في الاعتقاد. ولو عرض هذا على فهم من فرض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه. وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وتحريم الله لذلك، ويفهم هذا من «ادْرَءُوا الحُدُود بالشُّبُهات»، وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر.
قالوا: فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره، وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالة على فهمه بوجه ما.
قالوا: ومن أين يفهم من قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} [النحل: 66]، ومن قوله: {فاعتبروا} [الحشر: 2] تحريم بيع الكشك باللبن. وبيع الخل بالعنب، ونحو ذلك. قالوا: وقد قال تعالى: {وما اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله} [الشورى: 10] ولم يقل إلى قياساتكم وآرائكم. ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدًا.
قالوا: وقد قال تعالى: {وما كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله. لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم.
وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصة، وقال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إلى} [الأنعام: 50]، وقال: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49]، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} [الشورى: 21] قالوا: فدل هذا النص على أن ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرع غيره الباطل.
قالوا: وقد أخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى: أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو عفا عنه لعباده، مباح إباحة العفو، فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسًا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما، فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاؤه، إذ المسكوت عنه لابد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع، وبينه وبين الواجب. فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفا عنه. ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسًا على ما حرمه، وهذا لا سبيل إلى دفعه، وحينئذ فيكون تحريم ما سكت عنه تبديلًا لحكمه. وقد ذم الله تعالى من بدل غير القول الذي أمر به فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم، وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا: من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته» فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحًا بمسألته عن حكم ما سكت عنه، فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه ورأيه!! يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفوًا عفا الله لعباده عنه، وكان البحث عنه سببًا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه، وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم. فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه يدل على أنّه عفو منه، فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص، كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه، فحرم من أجل مسألته، بل كان الواجب عليه ألا يبحث عنه. ولا يسأل عن حكمه اكتفاء بسكوت الله عن عفوه عنه. فهكذا الواجب عليه ألا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم أصله الذي يلحق به.
قالوا: وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101- 102]. وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «ذروني ما تَرَكْتُكم فإنما هَلَكَ الَّذِينَ من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أَنْبِيَائهم، فإذا نَهْيتُكم عن شيء فَاجْتَنِبُوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم. ولا فرق في هذا بين حياته وبين مماته. فنحن مأمورون أن نتركه صلى الله عليه وسلم وما نص عليه، فلا نقول له لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه فتأمله فإنه واضح، ويدل عليه قوله في نفس الحديث: «وَإِذا نَهَيْتُكُمْ عن شيء فاجْتَنِبُوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فجعل الأمور ثلاثة لا رابع لها: مأمور به فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة ومنهي عنه فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية. ومسكوت عنه فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عليه.
وهذا حكم لا يختص بحياته فقط، ولا يخص الصحابة دون من بعدهم، بل فرض علينا نحن امتثال أمره، واجتناب نهيه، وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه. وليس ذلك الترك جهلًا. وتجهيلًا لحكمه، بل إثبات لحكم العفو وهو الإباحة العامة، ورفع الحرج عن فاعله.
فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها، فإنها: إما واجب، وإما حرام، وإما مباح. والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح. وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18- 19] فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين.
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] فقسم الحكم إلى قسمين: قسم أذن فيه وهو الحق، وقسم افترى عليه وهو ما لم يأذن فيه. فأين إذا لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه، وأن نقيس القزدير على الذهب والفضة، والخردل على البر: فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله. وإلا فإنا قائلون لمنازعينا {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا} [الأنعام: 144] فما لم تأتونا به وصية من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عين الباطل، وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ولا قياس، ولا تقليد إمام ولا منام، ولا كشوف ولا إلهام، ولا حديث قلب ولا استحسان، ولا معقول ولا شريعة الديوان، ولا سياسة الملوك، ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المرسلين أضر منها. فكل هذه طواغيت! من تحاكم إليها أو دعا منازعه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت! وقال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 74].
قالوا: ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه، لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص. ومن مثل ما لم ينص الله سبحانه على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال، ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك، ولما أغفله سبحانه، وما كان ربك نسيًا وليبين لنا ما نتقي كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول سبحانه: {وما كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوما بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. ولما وكله إلى آرائنا ومقاييسنا التي ينقض بعضها بعضًا، فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره، فيجيئ منازعه فيقيس القياسان معًا من عند الله، وليس أحدهما أولى من الآخر فليسا من عنده، وهذا وحده كاف في إبطال القياس، وقد قال تعالى: {وما أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فكل ما بينه رسوله الله صلى الله عليه وسلم فعن ربه سبحانه، بينه بأمره وإذنه. وقد علمنا يقينًا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها، وأن اسم البر لا يتناول الخردل، واسم التمر لا يتناول البلوط، واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير، وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المهر، وأن تحريم أكل اميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند الله حيًا وميتًا إذا مات صار نجسًا خبيًا. وأن هذا عن البيان الذي ولاه الله رسوله وبعثه به أبعد شيء وأشده منافاة له. فليس هو مما بعث به الرسول قطعًا، فليس إذًا من الدين. وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «مَا بَعَث الله من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم» ولو كان الرأي والقياس خيرًا لهم لدلهم عليه، وأرشدهم إليه ولقال لهم إذا أوجبت عليكم شيئًا أو حرته فقيسوا عليه ما كان بينه وصف جامع، أو ما أشبهه. أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه، ولما حذرهم من ذلك أشد الحذر. وقد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره. وإنما بعث الله سبحانه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها، فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء، وعلق عليه حكمًا من الأحكام وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم، ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه، ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء، مما يقتضيه الاسم، فالزيادة عليه زيادة في الدين، والنقص منه نقص في الدين.
فالأول القياس، والثاني التخصيص الباطل، وكلاهما ليس من الدين. ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه، ويقول هذا قياس. ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول هذا تخصيص. ومرة يترك النص جملة ويقول ليس العلم عليه. أو يقول هذا خلاف القياس، أو خلاف الأصول.
قالوا: ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبع الناس للأحاديث، وكان كلما توغل فيه الرجل كان أشد اتباعًا للأحاديث والآثار. قالوا: ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن ولا ترى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقيسا. فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به، وكم من أثر درس حكمه بسببه فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خلوية على عروشها، معطلة أحكامها، معزولة عن سلطانها وولايتها، لها الاسم ولغيرها الحكم، لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي. وإلا فلماذا ترك حديث العرايا، وحديث قسم الابتداء، وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن كانت بكرًا، أو ثلاثًا إن كانت ثيبًا. ثم يقسم بالسوية، وحديث تغريب الزاني غير المحصن، وحديث الاشتراط في الحج، وجواز التحلل بالشرط، وحديث المسح على الجوربين، وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أن كلام الناس والجاهل لا يبطل الصلاة، وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها، وحديث المصراة. وحديث القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث. وحديث خيار المجلس. وحديث إتمام الصوم لمن أكل ناسيًا. وحديث إتمام الصبح لمن طلعت عليه الشمس وقد صلى منها ركعة. وحديث الصوم عن الميت. وحديث الحج عن المريض المأيوس من برئه. وحديث الحكم بالقافة. وحديث: «من وجد متاعا عند رجل قد أفلس». وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر. وحديث بيع المدبر. وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين، وحديث: «الولد للفراش إذا كان من أمه» وهو سبب الحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا. وحديث قطع الساق في ربع دينار. وحديث رجم الكتابيين في الزنى، وحديث: «من تزوج امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله» وحديث: «لا يقتل مؤمن بكافر»، وحديث: «لعن الله المحلل والمحلل له» وحديث: «لا نكاح إلى بولي» وحديث: «المطلقة ثلاثا لا سكنى لها ولا نفقة»، وحديث عتق صفية وجعل عتقها صداقها، وحديث: «اصدقوا ولو خاتمًا من حديد»، وحديث: «إباحة لحوم الخيل»، وحديث: «كل مسكر حرام»، وحديث: «ليس فيما دون خمسة أوسق صداقة» وحديث المزارعة والمساقاة، وحديث: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وحديث: «الرهن مركوب ومحلوب» وحديث النهي عن تخليل الخمر، وحديث قسمة الغنيمة «للراجل سهم وللفارس ثلاثة»، وحديث: «لا تحرم المصة والمصتان»، وأحاديث حرمة المدينة، وحديث إشعار الهدى وحديث: «إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل»، وحديث الوضوء من لحوم الإبل، وأحاديث المسح على العمامة، وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده، وحديث السراويل، وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض. وأنه جوز لا تجوز الشهادة عليه، وحديث: «أنت ومالك لأبيك» وحديث: «من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد»، وحديث الصلاة على الغائب، وحديث الجهر بـ: آمين في الصلاة، وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ولا يرجع غيره، وحديث: «الكلب الأسود يقطع الصلاة» وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال، وحديث نضج بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، وحديث الصلاة على القبر، وحديث: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيئ وله نفقته»، وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره، وحديث النهي عن جلود السباع، وحديث: «لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره»، وحديث: «إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء»، وحديث الوتر على الراحلة، وحديث: «كل ذي ناب من السباع حرام»، وحديث: «من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة»، وحديث: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيه صلبه من ركوعه وسجوده»، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، وأحاديث الاستفتاح، وحديث: كان للنَّبي صلى الله عليه وسلم سكتتان في الصلاة، وحديث: «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم»، وحديث حمل الصبية في الصلاة، وأحاديث القرعة، وأحاديث العقيقة، وحديث: «لو أن رجلًا اطلع عليك بغير إذنك»، وحديث: «أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل»، وحديث: «إن بلالًا يؤذن بليل»، وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة، وحديث النهي عن الذبح بالسن والظفر، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء، وحديث النهي عن عسيب الفحل، وحديث: «المحرم إذا مات لم يخمر رأسه، ولم يقرب طيبًا» إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من أجل القول بالقياس والرأي.